-العجل و المحرّك -
الأسماء في اللسان العربي ، هي أسماء لم تطلق على الأشياء اعتباطيا ، إنما هناك قاعدة تحكم تسمية مسميات ، وتتخذ القاعدة شرط أن يكون الإسم يدل على صفات و خصائص المُسمّى ، بحيث يكون نطق الإسم دالا على الشيئ المُسمّى ، مثلا عندما نسمي "المدرسة" فنحن نسميها بهذا الإسم لأنها مكان "دراسة" ، عندما نسمي "الكوب" كوبا لأنه كأس "يُكَب" فيه الماء ، عندما نسمي "المكنسة'' مكنسة فلأنّها "تكنس" الأرض ...وهكذا .
المشكلة التي نحن بصدد معالجتها هي المسميات الحديثة للأشياء التي لم يكن لها وجود قبل قرون خلت ، فهي أسماء اتفق على تسميتها حديثا لأنها لم تكن موجودة في القدم و في أوّل الخلق ...
فلو نأتي مثلا بشخص عاش قبل 10 قرون و نوريه هاتف نقال و نقول له ما إسم الهاتف ، فأكيد أنه لن يعرف إسمه و سيسأل عن خصائصه ومواصفاته ثم يطلق عليه إسم معين بناءا على استشفّه من مواصفاته ، فالإسم الذي سيطلقه على الهاتف يمكن أن يكون بمثل تسميتنا (هاتف) ويمكن أن يكون إسم مغاير آخر بحسب استنتاجه ورأيه ، فيطلق عليه إسم "جهاز مُراسل" مثلا ، أو يطلق عليه "مُوصِل" او اي إسم آخر يتطابق مع صفة الاتصال التي يؤديها الهاتف ..
ما أود الإشارة إليه في النثال أن إسم الهاتف هو إسم نحن هم من اصطلحنا و اتفقنا على تسميته به ، وتم ذلك بناءا على الإجماع و التوافق المشهور فهو ليس إسم ملاصق لهذا الجهاز ويمكن ان نطلق عليه أي إسم آخر ، ولو تلاحظ معي أن هناك من يسميه "النقال" و هناك من يسميه "الخلوي" بناءا على مسميات تم استنتاجها من مواصفات و خصائص الجهاز .
سنعطي مثال آخر حتى تتضح الفكرة أكثر ، نحن عندما نسمي المركبة التي نتنقل بها بإسم "السيارة" فهو إسم عربي نحن من اطلقناه على المركبة ، وهو إسم غير ملاصق 100٪ ويستطيع ان يتداخل مع مسميات أخرى ، فهناك من يسميها "عربة" وهناك من يسميها "مركبة" وهو من يسميها "ناقلة" ..فلو يأتي شخص عاش قبل اختراع السيارة و تطلب منه أن يسميها بإسم معين يمكن ان يسميها "خيل صناعي" او يسميها "مركبة" او يسميها بأي إسم آخر يراه متلائما مع وظيفتها و خصائصها .
الآن ننتقل إلى موضوعنا المرتبط بإسم "المحرك"، ولماذا تم تسميته بهذا الإسم ، وهل يمكن ان يطلق عليه إسم آخر ؟
موضوعي هذا سيترابط مع فكرة أن "العجل الجسد" الذي فتن به قوم موسى و أخترعه السامري هو المحرك ..
عند البحث في التأصيل اللساني المتقارب لكلمة "العجل" فنجدها أنها كلمة وصفية مصدرها "التعجيل" ، فنقول ذلك المثل "في التأنِّي السلّامة و في العجَلة الندامة" ، فالعجلة هي لفظ مرابط للسرعة و التسريع ...لكن السؤال الذي نطرحه هو لماذا ترابط هذا الإسم مع إسم إبن البقر ، ماعلاقة التعجيل بإسم صغير البقرة ؟ .
المعروف أنّ إبن البقر الذي يقل عن 9 أشهر يسمى "العجل" ، وتجد في اللفظ المتداول أن أي وليد للبقرة سواء ذكر أو أنثى يسمى بالعجل .
الذي يهمني حاليا هو لماذا سمي بإسم "العجل" ؟ أكيد أن التسمية ليست من فراغ .....فالقدماء مثلا عندما أطلقوا إسم الثّور على ذَكَر البقرة لم يتم إطلاقه من فراغ ، فكلمة "ثور" مصدرها لسانيا هو "الثوران" ، والجميع يعرف أن الثيران في المكسيك او إسبانيا يتم استعمالها في لعبة مشهورة لتثوير و تهييج الثور عن طريق القماش الأحمر ، و لأن الثور من خصائثه وطباعه أنه يهيج ويثور عندما يتم إثارته باللون الاحمر .
ثور = ثار = يثور = الثائر ...فتم تسميته بصفة الثور لأنه "يثور" .
كذلك بالنسبة للعجل فالأكيد أن هذا الحيوان الصغير لم يطلق عليه هذا الإسم من فراغ ...عند الرجوع للماضي وجدت أنّ هناك نوع خاص من البقر يتم استعماله لإثارة الأرض و حرثها ، ففي القدم كانت تستعمل بعض أنواع البقر لمثل هذه المهمة الشاقة ، ولاشك أن مهمة الحرث هي مهمة صعبة وتحتاج قوة بنية وجهد كبير ، فالإنسان بيده البسيطة لايستطيع ان يحرث قطعة أرض فيها هكترات وسيأخذ منه مدة طويلة جدا وتعب طويل .
الذي أمامكم في الصورة المرفقة هو نوع من البقر خلقه الله بتلك الحدبة بالضبط للقيام بهذه المهمة ، حيث يتم وضع خشبات المحراث على تلك الحدبة ثم يجرها ببنيته الجسمانية القوية للقيام بمهمة الحرث و اختصار الجهد و الوقت .. ومما لاشك فيه أن هذا النوع من البقر كان يطلق عليه إسم "العجل" ، لأنّ مهمته كانت تعجيل الحرث باختصار الجهد و الوقت في سرعة وجيزة ، ولو تبحث في جميع المصادر لن تجد إجابة تقنعك فالعلم المتعلق بعلم الأسماء غائب ويتم تقزيمه ، فالعجل إسم لايرتبط مع صغير البقر فقط بل يرتبط مع النوع الذي يستعمل للحرث ، وهناك مناطق عربية إلى اليوم تسمي الثور بإسم العجل حتى و إن كان كبيرا في العمر .
الآن عندما نتحدث عن العجل الذي لم يبلغ التسعة أشهر ، أكيد أنّه ليس ببقرة حتى يجلب الحليب ، فالبقرة لا تبلغ هذه المهمة حتى يصل عمرها التسعة أشهر .... يبقى للعجل الآن خصوصيتين مفيدتين للبشر فقط ، ياإما يذبح ويستفاد من لحمه أو يا إما يستعمل لتحريك الأرض و حرثها .
تسميته كعجل لا تتطابق مع خاصية الإستفادة من لحمه لأننا لانرى اي مقاربة بين تسميته بالعجل وبين تخصيصه كحيوان يستفاد من لحمه ، يبقى إسم العجل إسم يتطابق مع خاصية استعماله كجرار للحرث ، فطبعا العجل بالمقارنة مع البقرة او الثور الكبير فإنّه صغير في السن و تجده كثير النشاط مقارنة مع البقرة الكبيرة قليلة الحركة و النشاط ، وفي نفس الوقت العجل بالرغم من صغر سنه نجده قوي البنية مما يساعده على التحمل الذي يلاقيه أثناء جر المحراث في الأراضي الصلبة او الهشة ...لذلك قديما كان يستعمل لتحريك الأرض واختصار الجهد و الوقت مقارنة بما يلاقيه الفلاح من صعوبة لو قام بذلك العمل بجهده الفردي ...لذلك سمي بإسم العجل كونه يعجل عملية تحريك الأرض و الحرث .
لكن هناك سؤال مهم قد يطرحه البعض ، وهو أنّ هناك من يستعمل بعض أنواع الثيران للقيام بمهمة الحرث ؟ السبب في تسمية "الثور" لذكر البقرة البالغ ليس إسم ملاصق إنما هو صفة اطلقت عليه لانه حيوان يثور وقد تطرقنا لهذا النقطة سابقا ، هذا من جهة ، من جهة ثانية هناك حتى من يسمي ذكر البقرة الكبير بإسم "العجل" وقد أطلق عليه هذا الإسم كونه كان يستعمل لتحريك الأرض والحرث كما ذكرنا ، فإسم العجل هو إسم ارتبط بخاصية الحرث وتحريك الأرض في الفلاحة، أما البقرة الأنثى البالغ فإنها لا تأخذ إسم العجل وتأخذ إسم "البقرة" كونها تصبح مخصصة لإنتاج الحليب إذا نضجت، و إذا قامت بجهد آخر فإنها تفقد طاقتها و غذاءها المخصص لإنتاج الحليب .
الحصول :
- إسم "البقرة" إسم مخصص للبقرة التي تنتج الحليب .
-إسم "الثور" هو إسم وصفي يُطلق على ذكر البقرة البالغ .
-إسم "العجل" هو إسم يطلق على صغير البقرة ، ويطلق على الثور الذي يقوم باعمال الحرث ، فهو إسم وصفي .
الآن ، تخيل أن شخص عاش زمن قديم جدا و سافر عن طريق الزمن للحاضر و أراد وصف الأمور التي تحدث معنا الآن ، ماهو الإسم الذي سيطلقه على المحرّك لو رءاه ؟
ا كما ذكرنا في البداية في فإن التسميات هناك منها ماهو ثابت ، وهناك منها من اتفقنا نحن على إطلاقها على بعض الاشياء المستحدثة ، فالمحرك شيئ مصنوع ومستحدث ونحن من أسميناه بهذا الإسم و يستطيع أي شخص آخر أن يسميه تسمية أخرى بحسب خصائص المحرك ووصفه ... سأعطيك مثال كي يتضح لك الموضوع ..
نحن اتفقنا مثلا على تسمية الدراجة بإسم الدراجة ، لكن هناك مناطق عربية تسميها "عجل" في مصر توجد مناطق تسمي الدراجة عجل ، فهل التسمية خضعت لقاعدة محكمة ؟ اكيد لا ، إنما تسميتنا للدراجة بذلك الإسم جاءت بناءا على اصطلاحنا و اتفاقنا ويمكن اطلاق اي اسم آخر على الدراجة .
مثال آخر مثلا "العجلة المطاطية" هناك مناطق في السودان تسميها "العجل" ، وهناك من يسميها إطار مطاطي ، وهناك من يسميها "عجلة" ، فالتسمية تختلف لكنها تتفق بالإسقاط على خصائص و مواصفات الشيى المسمى .
عندما يرى إنسان قديم عاش في وقته ورأى الآداة التي كانت تستعمل للحرث و يجرها العجل ، فأكيد انه عندما يرى المحرك الذي اخترع وقت الثورة الصناعية سيشبهه بها ،وسيطلق على المحرك إسم العجل ، لأنه يقوم بنفس دور العجل الذي ذكرناه ... فلو تلاحظ أن هناك شبه بين عمل العجل الذي مهمته اختصار الجهد و الوقت للفلاح في عملية الحرث ، وبين عمل المحرك الذي يستعمل في مجالات كثيرة و الذي مهمته اختصار الجهد و الوقت .
حتى في تسميتنا الحديثة ، فنحن عندما اطلقنا إسم "العجلة" على ذلك الإطار الدائري الذي يساعد في الحركة و السرعة ، فتسمية "العجلة" جاءت من كلمة تاصيلية وهي "التعجل" أي اختصار الجهد و الوقت واداء مهمة معينة في سرعة وجيزة .
حتى لو ترجع لوصف القرآن "عجلا جسدا له خوار" ، تخيل واحد قديم جدا عاش قبل قرون من اختراع المحرك ورأى آلة تعمل بنفس عمل العجل و تصدر صوت الخوار الذي هو صوت المحرك ، فأكيد سيطلق عليه وصف "العجل الذي يصدر الخوار" ... حتى لو تسمع صوت المحرك البخاري القدبم فستجده يطلق صوت فيه حرفي الخاء و الراء "خرررخررر" ، ذلك الصوت بالإضافة إلى تأديته بنفس مهمة العجل جعل اللفظة الأقرب إلى وصفه هي عبارة "عجلا جسدا له خوار" ،حتى استعمال لفظة "الجسد" فهو إسم يقرب لوصف الآلة فالآلة هي عبارة عن جسد بدون روح .
قبل الختام هناك من سيقول لي ، ان الحمير و الاحصنة كانت تستعمل للحرث و الجر ، وهذا خطأ كبير ، فحتى و ان استعملوا فمهمتهم الرئيسية ليست الحرث ..الحمير مهمتها حمل الأثقال و التنقل بالركوب ، و الأحصنة مهمتها الركوب و التنقل ، [وسخّر لكم الخيل و البغال و الحمير لتركبوها وزينة] .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق