هناك مصطلحات في اللغة العربية الحديثة تحتاج منا البحث عن أصولها ، و أقصد بالخصوص التسميات التي تطلق على الإختراعات الحديثة .. مثلا عندما نجد إسم "الكهرباء" كمصطلح يطلق على نوع من الطاقة الصناعية التي أتت مع الثورة الصناعية ، فإننا نتساءل عن فحوى هذا المصطلح و معناه ، و من الذي أتى به عربيا و لماذا تم اسميته بهذا الإسم بالضبط ؟
الحقيقة أنه عند تحليل الإسم تجده مأصل من إسم مركب "كهر" + "باء"، و هذا ما جعلني أتذكر كلمة يطلقها التونسيين على السيارة "كرهباء" ، فهل أصل تسمية الكهرباء هو الكرهباء ؟
نعم ... و الإسم أصله مركب من عبارة "كره باء" أي كره الباء .. و قد هضم في عبارة محرفة "كهرباء" .
إذا عرفنا معنى الكره ، فما معنى إسم الباء هنا ؟
مشتقات كلمة "الباء" في القرآن نجدها تدل على السكن :
[ واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد عاد و بوّأكم الأرض تتخذون من سهولها قصورا و تنحتون من الجبال بيوتا .. ] الأعراف .
بوأكم الأرض = أسكنكم الأرض .
[ وكذلك مكنّا ليوسف في الأرض يتبوأ منها حيث يشاء..] يوسف .
يتبوّأ منها حيث يشاء = يسكن منها حيث يشاء .
[ و إذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت أن لا تشرك بي شيئا و طهر بيتي للطائفين و القائمين و الركع السجود ] الحج .
و إذت بوأنا لإبراهيم مكان الببت = و إذ أسكنا لإبراهيم مكان البيت .
لأنه الله أسكن لابراهيم ذريته هناك عند مكان البيت المحرم .. امتثالا ل:
[ربي إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرّم] ابراهيم .
[والذين تبوءوا الدار و الإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم و لايجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ..] الحجر .
والذين تبوءوا الدار و الإيمان = و الذين سكنوا الدار و الإيمان .
[قال لئن بسطت يدك إليّ لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إنّي أخاف الله ربّ العالمين - إنّي أريد أن تبوء بإثمي و إثمك فتكون من أصحاب النار ] البقرة .
إني أريد أن تبوء بإثمي و إثمك = بمعنى أنه قال له أنه يريد أن يسكن الأرض بعد موته و هو حامل إثمه و إثم قاتله .
الكلمات معناها السكن و منها اشتق إسم البيئة الذي يقصد به السكن الذي يعيشه الإنسان على الأرض ، فالأرض هي سكن البشر ، و هو يطلق اليوم على المناخ بتنوعه كونه المصطلح الأقرب الذي يدل على الأرض بجانبها السّكني .
هل نلاحظ أنه لسانيا الكلمات السابقة "يتبوأ ، بوّأنا ، بوّأكم ، تبوّءوا" كلها قريبة لسانيا من كلمة باء ؟
نعم ، بل إن المصدر الأول اللساني للكلمات هي "الباء" و يقصد بها السكن .
السكن هو إسم نطلقه على البيت أو المنزل لكنه ليس ملاصق له ، فالأصل في السكن هو السكون أي اللجوء للراحة أو الإختباء للهدوء و السكينة .. و وضعية السكون المعروفة هي التوقف دون حركة .
وقد ورد في القرآن إسم الباء كفعل :
[اهبطوا مصرا فإنّ لكم ماسألتم و ضربت عليهم الذلة و المسكنة و باءوا بغضب من الله ] البقرة .
باءوا بغضب من الله بمعنى سكنوا بغضب من الله بعد انتقالهم للأرض التي فضلوها .
[ضربت عليهم الذلّة أينما ثقفوا إلاّ بحبل من اللّه و حبل من النّاس و باءوا بغضب من الله و ضربت عليهم المسكنة] ال عمران .
و باءوا بغضب من الله بمعنى سكنوا بغضب من الله ، لذلك كانت بداية الكلام الحكيم بأن الذلة ضربت عليهم أينما ثقفوا بمعنى أينما تنقلوا و ارتحلوا و المعروف أن السّكن عكسه التنقل و الترحال .. و بالتالي فإن الآية توصف بأنهم إذا تنقلوا كانوا مذلولين و إذا سكنوا غضب الله عليهم بأن ضرب عليهم المسكنة .. و كلمة المسكنة كذلك فيها تلميح و تقريب لكلمة السكن .
[أفمن اتبع رضوان الله كمن باء بسخط من الله و مأواه جهنم و بئس المصير] ال عمران .
كمن باء بسخط بمعنى كمن سكن بسخط من الله ، أي توقف ساكنا بدل اتباع رضى الله ، و "مأواه جهنم" استعملت فيها كلمة المأوى للدلالة على السكن الذي يخلد له الانسان للتوقف و أخذ الراحة .
[ و من يولّهم يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال أو متحيّزا إلى فئة فقد باء بغضب من الله و مأواه جهنم و بئس المصير ] الأنفال .
فقد باء بغضب من الله بمعنى سكن الأرض بغضب من الله و مأواه جهنم .
[ بئسما اشتروا به أنفسهم أن يكفروا بما أنزل الله بغيا ان ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده فباءوا بغضب على غضب و للكافرين عذاب أليم ] البقرة .
المقصود هنا هم بنوا إسرائيل ، و باءوا بغضب على غضب بمعنى سكنوا الأرض بغضب على غضب ، و السبب في استعمال "على" (غضب على غضب) للدلالة على الأرض التي غضب عليهم فيها كذلك .
هناك رواية حديث نبوي تقول "من أراد منكم الباءة فليتزوج .." و قد تم شرح كلمة الباءة بمعنى أنها النكاح ، لكن حسب رأينا تعني "السكينة" لأن الزواج سكينة مصداقا لآية قرآنية "و خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها" ، أي أنه من أراد السكن و السكينة فليتزوج .. و إلى اليوم شعبيا نطلق على الشخص الذي يتزوج بأنه استبيت أي له بيت يسكن اليه .
باءة (مؤنث)= سكينة .
باء (مذكر) = سكن .
.............
عند العودة لموضوع الكهرباء ، فالمعنى المقصود بهذا الإسم هو تعرية حقيقتها (كره الباء) أي كره السكن .. و معروف علميا أن ترددات الكهرباء لها تأثير سلبي على شحنات الجسم الطاقية ، فما بالك لو كانت جدران بيوتنا كلها أسلاك كهربائية ... و بالتالي فإن الكهرباء تعتبر من أكثر المسببات لفقدان السكينة و الراحة النفسية حتى لو جلست في بيت على شط البحر ، و ممكن أن يكون لهذا التأثير حتى تأثير على العلاقة الجنسية فالعامل النفسي و السكينة هو من أهم مقومات نجاحها .. هناك حتى من يصل للبيت يسكن للتلفزيون بدل السكن لزوجته و قس على ذلك .
لو تلاحظ أن مخطط الكهرباء في الفيزياء دائما يرسم بشكل دارة أي الدار ، فالكهرباء هي سلاح يستهدف الدار التي هي سكن الإنسان .
..........
عند العودة لإسم "الباء" ففي الخط الكتابي الحالي نكتبه بالحرف "ب" دون أن نعرف لماذا نطلق عليه إسم "باء" و لا لماذت نكتبه بهذا الشكل ؟
في الكتابات الأثرية المصرية التي حُرِّف تفكيكها هناك رمز لشخص يأوي إلى ركن بيت و هذا هو التعريف لمعنى السكن ، فالسكن هو التوقف و اللجوء إلى ملجئ ... و الرمز في أصله يقرأ "باء" أي سَكَن .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق