- كيف تم السطو على تاريخ أرض المقدس ؟ -
قبل أن نبدأ الموضوع علينا أن نكون مركّزين إلى أن القرآن هو خطاب و كلام مضبوط و دقيق جدا هدفه الأول هو إصلاح أي خلل يمس فطرة ماكان عليه الإنسان الأوّل ، فإذا كان هو بحد ذاته يعترف بأنه عبارة عن نبأ عظيم (حدث مستقبلي) فهذا يعني بأننا علينا أن نتعامل مع كل كلامه بتفكير و تدبر واقعي بعيد كل البعد عن إسقاطه في روايات تجعله كلام أحداث ماضية خلت و لم يبقى منها إلا الكلام .
و الحقيقة أن موضوعنا هو موضوع يشكل في عقلنا الجمعي خلل صعب تفكيكه بالنظر إلى كمية الكتب و الكتابات التي تتطور و تدعمه وهو موضوع أرض القدس ، فالكُتَّاب الأكاديميون و بالخصوص أكاديميو التاريخ أصبحوا بشكل ملفت يطورون نظرياتهم بشأن أرض المقدس و التواجد اليهودي لدرجة أنّهم أضحوا يفسرون كتاب العهد القديم على أساس أنه وثيقة تاريخية أصلية تمثل التوراة ، و المعضلة الكبرى أنهم باتو يعترفون بأن اليهودية هي ديانة سماوية نزلت من عند الله و أن الإسلام هو دين متطور و منبثق عن الديانة اليهودية التي ظهرت حسبهم قبل الآسلام بألف ونصف الألف سنة ، و كل هذا يتم تأسيسه لحساب توثيق نظرية أن اليهودية هو الدين الأول الذي انطلق من أرض المقدس و أن ارتباط الإسلام بتلك الأرض هو ارتباط حديث و متأخر عن التاريخ الذي يربط اليهود بتلك الأرض . بحيث أصبح الوعي الجمعي مصنف و مخطط له على الرتم التالي :
- بيت المقدس في ذاكرتنا نحن المسلمين جعلوه مرتبط بالتفسير الذي يفسّر الآية القرآنية حول الإسراء من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ، بحيث أصبح القدس بالنسبة لوعينا الزمني هو مكان ذو قدسية بدأت و نشأت في القرن السادس ميلادي ... بحيث تم تفسير الآية الآتية كالتالي :
[ سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا ١ ] الإسراء .
تم تفسير الآية بأنها نزلت على الرسول عندما نقله الله من مكة إلى القدس كحادثة وقعت سنة621 م ، بحيث تقول كتب التفاسير و أسباب النزول بأنه عند نوم الرسول أُسرى به الله عن طريق جبريل و دابة تسمى البراق حتى وصل إلى مسجد القدس و ربط الدابة عند بابها ثم صلى بالأنبياء مجتمعين ... و بعدها فرضت الصلاة عندما صعد الرسول إلى السماء و كانت القبلة المختارة هي القدس لمدة سنة إلى أن تغيّرت إلى مكة بعد نزول آية جديدة تولّي الرسول قبلة يرضاها و هي المسجد الحرام .
- جعلوا تاريخ أرض القدس لدى اليهود متقدم علينا زمنيا ب1600 سنة ، بحيث يذكر التأريخ اليهودي و كتابهم العهد القديم أنه تم بناء الهيكل من قبل سليمان(الذي حسبهم هو ملك يهودي) في القرن التاسع قبل الميلاد و الهيكل حسبهم عبارة عن أوّل معبد يهودي يؤسَّس و تم تسميته في كتابهم العبري بإسم "همقدش" .. أما بالنسبة للمسيحيين فهم يؤمنون بنفس ما يؤمن به اليهود حول الهيكل و بالإضافة لذلك فإنهم يؤمنون بأن القدس هي المنطقة التي نزل بها عيسى في القرن الأول للميلاد و أنهم يملكون علاقة روحية و مقدسة بالمنطقة هناك .
- ماهي أبرز مشكلة جعلت الإسلام دين متأخر زمنيا عن التاريخ الذي ربطوه بظهور اليهودية في أرض المقدس :
المشكلة الأولى التي تم صياغتها للمسلمين هو إقناعهم عن طريق الروايات و التفاسير و الاحاديث التي تنسب للرسول و قصص السيرة بأن الكتاب الذي يملكه اليهود هو التوراه و أنه كتاب محرّف فقط ، وبالتالي ترسّخت للمسلم فكرة أن اليهود وكتابهم كانوا متواجدين قبل آلاف السنين ، و بالخصوص عندما يتم تسمية القدس بكلمة محرفة "همقدش" كي يضن الناس أن تسمية القدس سرقها المسلمين من كلمة همقدش .. هذه الأسباب تعتبر أرضية خصبة تجعل كل الكُتاب التاريخيين و أي عقل باحث وغارق في ورق الكتب يصدق فكرة أنّ اليهودية ديانة ظهرت قبل الإسلام بقرون ساحقة و تصبح هذه الفكرة مأصّلة لكون القدس هو ميراث مرتبط بأرض تخص شعب ظهر بديانته قبل الإسلام .
المشكلة الثانية التي جعلت الإسلام متأخر عن القدس بألف ونصف الألف سنة هو التفسير المغرض الذي ألغى نبوءة قرءانية عن طريق تحوير تفسيرها ، و أسّس لفكرة جديدة تجعل من القدس مرتبط بالإسلام بزمن متأخر ظهر في القرن السادس للميلاد ، بحيث تم ربط الإسلام بالقدس لوقت حديث و تم صياغته على أنه حدث عندما أسري حسبهم بالرسول من مكة إلى القدس خلال سنة 621 ميلاد ... لكن حقيقة هذا التفسير لا تتلائم مع منطوق القرآن للأسباب التالية :
[ سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا ] الإسراء .
التفاسير تقول بأن الآية نزلت بعد إسراء النبي من مكة إلى القدس كي تفرض الصلاة إلى المسجد الأقصى كأول مرة و كقبلة أولى ، وبسبب هذا التفسير ترسخ ارتباط المسلمين بالقدس على أنه وليد هذه الحادثة و اعطى بذلك الاسبقية لليهود تاريخيا ...وهنا علينا طرح السؤال : هل هذا التفسير صحيح ؟ و هل القبلة الأولى للإسلام كانت من بيت القدس و لم تكن من الكعبة ؟
سنتطرق للسؤال الأوّل و جوابه أن هذا التفسير خاطئ و غير صحيح و لا يتلائم إطلاقا مع كلام الله المضبوط بكل كلمة يقرّها القرآن .. فالآية تقول "سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى و تصف الكعبة بلفظ "المسجد الحرام" فكيف يعترف القرآن بأن الكعبة هي المسجد الحرام فيما الآية نزلت لتؤسس للقدس بأنه هو قبلة المسلمين الأولى التي فرضت نحوها الصلاة ، و من باب آخر فآن الآية تقول أن الرسول اسري به للقدس و ربط دابته على باب المسجد فهل عندما أسري به كان المسجد هناك مبني كمساجد المسلمين اليوم ؟ الم يكن كنيسة وقتها بحسب التاريخ الذي يتحدث عن كون انها كانت منطقة مسيحية ؟ بمعنى آخر هل كان هناك مسلمين بانيين المسجد هناك و يصلون فيه ؟ فكيف وجده مسجدا جاهزا إذا !! .
من جهة ثانية علينا أن نتساءل عن القبلة التي كان عليها الناس المؤمنة زمن ابراهيم و من بعده ، فهناك آية تثبت أن الناس كانت تقوم و تطوف و تسجد و تركع (تصلي) عند البيت الحرام في زمن إبراهيم ، اقرأ :
[و إذ جعلنا البيت مثابة للناس و أمنا و اتَّخذوا من مقام ابراهيم مصلّى و عهدنا إلى إبراهيم و إسماعيل أن طهّرا بيتي للطائفين و العاكفين و الركّع السجود (١٢٥)] البقرة .
وهناك آية أوضح منها :
[وإذ بوّأنا لإبراهيم مكان البيت أن لا تشرك بي شيئا و طهّر بيتي للطائفين و القائمين و الركّع السجود (٢٦) ] الحج .
فهنا الآيات واضحة بأن البيت الحرام كان موجود زمن ابراهيم و اسماعيل وكانوا يطهرون البيت للناس التي كانت تقوم و تعتكف و تطوف و تركع و تسجد ..فكيف يتم تفسير آية الإسراء على أن مغزاها تحديد القبلة الأولى و فرض الصلاة نحو القدس ؟ .
من جهة ثالثة ، تم ربط آية الإسراء بآيات أخرى تفيد بأنه بعد عام من فرض القبلة للقدس نزلت آيات جديدة تحوّل القبلة إلى المسجد الحرام ، و السبب في هذا الربط المحبك للتفسير هو أنّهم قد تخلّصوا من برمجة المسلم على أن الإسلام قد عرف منطقة القدس في القرآن خلال فترة الإسراء بالرسول .. لكن حقيقة الآية لا علاقة لها بتحويل القبلة من القدس الى الكعبة .. وقد تطرقنا لهذا الموضوع في مقال سابق ..هو على الرابط التالي :
https://bahithalhikma.blogspot.com/2021/09/blog-post_34.html?m=1
الآن لمن قرأ المقال بتمعن سيطرح سؤال وارد جدا ، و هو ماقصة القدس و المسجد الأقصى مع الإسلام حسب القرآن .. وإجابة هذا السؤال نملكها من خلال القرآن الذي يثبت بأن أرض القدس هي أرض المسجد الأقصى ، بل ولدى القرآن دليل يثبت أحقية الإسلام بتلك الأرض و ان تاريخه مرتبط بها منذ زمن موسى عليه السلام .. لكن سنتطرق لهذا في المقال القادم .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق