- ذاكرة التيه ج 3 (لماذا واقعنا اليوم غائب عن تاريخنا ؟) -
كل من يسكن هذه الأرض يحس نفسه تائها فيها و هو يقرأ تاريخها .. تيهانه يكمن في أنه يجد شعوب لا تسكن هذه الأرض لكن تاريخها مذكور في أثارها .. و بالأخص فترة ماقبل الميلاد ....مالسبب ؟
السبب الأوّل هو أن ذاكرتنا تواجه حاجز فاصل بين الزمن الذي ذكر تواجد آثارنا خلاله ، و بين تاريخ الزمن الذي نرى أننا خرجنا بواقعنا منه اليوم ... وضّح ، كيف؟
بمعنى أنّ أي شخص منا لا يمكنه أن يرى أناس تتحدث العربية و تؤمن بالإسلام خلال التواريخ التي هي من زمن ماقبل الميلاد و ما بعده إلى غاية رواية ظهور الإسلام في مكة .. فنحن نرى أنفسنا مختفين و لاوجود لنا قبل تاريخ رواية مكة ، لكننا فجأة و مع ظهور رواية مكة في القرن السادس نجد أنفسنا مسلمين و نتحدث العربية و ننتشر بثقافتنا على طول مساحة كبيرة .
السبب الثاني هو مشكلة دراسة الأثار ، بحيث أننا لا نجد أي ذكر لمقومات واقعنا اليوم داخل الدراسات و الترجمات الكتابية لكل الأثار المتواجدة على منطقتنا ... فما الخلل ؟
أّول شيئ علينا أن نعلم أن الأثار تعتبر هي الشواهد الوحيدة التي يمكن الإرتكاز عليها في وصف التاريخ القديم ، بمعنى أن الكتابات النظرية التي تكتب في الكتب هي مجرد حبر على ورق إذا لم تساندها أثار تشهد على ذلك الزمن .
فإذا ما تم دراسة الأثار و تفكيكها وفق ما تتحدث عنه النظريات الكتابية و بشكل مطابق فإن ذاك التاريخ النظري يصبح حقيقي ومرسّم على الواقع ... فهل تم القيام بهذه الخطوة من أجل نفي تاريخنا من على أثارنا و إسقاط نظريات تاريخ وهمية ؟
نعم ... بالضبط ، لأن من قام بفك و دراسة كل أثارنا هو عدو دخل هذه الأرض من أجل غزوها ... لذلك فإن سياسة الطمس الثقافي و القضاء على هوية شعوب ساكني الأرض المحتلة تعتبر من أولى الخطوات التي يقوم بها أي مستعمر يريد كسب مفاتيح الأرض .
▪︎لصالح مَنْ اختفى تاريخنا مِن أثارنا ؟
مع ازدياد تأثر مؤرخي المنطقة و المولعين بالدراسات الأكاديمية الغربية نلاحظ توسع مصطلح "جغرافيا التوراة" ، فالمؤرخين الأكاديميين لدينا يرون بأن كتاب العهد القديم هو الكتاب المقدس المقصود بالتوراة التي نزلت و نشأت في هذه الأرض قديما و التي حسبهم هي نفسها التوراة التي يعترف بها القرآن ، وأن تسميات الشخصيات و الجغرافيا و الأحداث الموجودة في كتاب العهد القديم هي حقيقة وقعت في تاريخ هذه الأرض .
أكثر شيئ ساهم في تبني هذه النظرة حول مصداقية الكتاب اليهودي على هذه الأرض هو نقطتين :
• النقطة الأولى هي متعلقة بالجانب الثقافي الديني المقدس و بالضبط مايسمى الترتيب الديني ، بحيث أن المسلم أو عموم العقل البشري ترسخ لديه بسبب كتب التاريخ مصطلح الأديان الثلاثة التي نزلت بالترتيب ... يهودية ثم مسيحية ثم إسلام ... و بالتالي فإنّ أي شخص قارئ للتاريخ سيعتبر أن اليهودية هي أقدم ديانة وجدت في التاريخ القديم لهذه الأرض و أن شعبها قد عاصر ما يسمى الحضارات القديمة التي كتبوا عن تواجدها على طول الأثار الموجودة في المنطقة .
• النقطة الثانية هي أن تاريخ أثارنا تم دراسته وفق الدراسات الغربية على أنه تاريخ حضارات نشأت قديما وفق الرواية اليونانية و رواية كتاب العهد القديم ، بحيث أنك عندما تقرأ وصف ودراسات الأثار تجدها مطابقة لنفس أو جزء من ماكتب عن الشخصيات و التسميات التي تذكرها كتب الرواية اليونانية و اليهودية .
▪︎ دراسة الغرب للأثار المصرية و العراقية هي أوّل من أنشأت هذا الفكر ... لاحظ :
قبل كل هذا على الجميع أن يعلم بأن نظرة شعوبنا لكل الحضارات التي نشأت قديما لم تكن موجودة قبل قرن أو قرنين بالكثير ، لأن أوّل من اكتشف و ذكر تلك الحضارات داخل أثارنا كان مع بداية الإحتلال الفرنساوي و البريطاني قبل قرنين .
حسب التاريخ القريب فإن البعثات الغربية قد دخلت مع حملة نابليون بونابرت إلى مصر ، و مباشرة بدأت الإكتشافات تتسلسل بطريقة مطابقة لما تذكره الرواية اليونانية و ما يذكره كتاب العهد القديم .... تسلسل غير بريئ بالمطلق ..
• توماس يونغ حسب ما أُّرِّخ عنه أنه عالم بريطاني عاش في القرن الثامن عشر ، أوّل ماقام به هذا البريطاني من اكتشاف هو عندما أوصل له صديقه المهندس النحّات جون بانكس أثر مصري لمسلة حملت و نقلت من مصر إلى انجلترا ... قام توماس يونغ بعدها بإخبار العالم أجمع و عن طريق تأثير الصحافة الأوروبية أن المسلة التي أحضرها له صديقه بانكس تحوي إسمي شخصيتين يونانيتين حكما مصر قديما و هما "كيليوباترا" و "بطليموس" .
• بعد حادثة توماس يونغ يخرج فرنسي آخر يدعى حسب المؤرخين "جاك شامبليون" ، أوّل ما قام به شامبليون بالتنسيق مع ما اكتشفه صديقه الإنجليزي يونغ هو قراءته لنقوش كتبت على حجر يسمى "حجر رشيد" قالو أنه عثر عليه الجنود البريطانيبن و الفرنسيين في مصر ، و هو عبارة عن حجر يحوي على كتابة يونانية مع كتابات اثرية مصرية قديمة ... فأكمل شامبليون ما قام به توماس يونغ و أخرج أول كلمة من الكتابات المصرية قال أنها تنطق "راعمسيس" و هي حسبهم إسم شخصية ملكية مصرية قديمة حكمت مصر .
• بعدها مباشرة يتم الإنتقال للعراق أين يتم إخراج حجرة بحجم قارورة مياه يقال أنه اكتشفها عراقي عاش في انجلترا يدعى 'هرمز رسام' و هو مسيحي كاثوليكي ، الإسطوانة قالو أن الخط المكتوب فيها هو خط مسماري قديم كان يكتب به شعب يسمى بابل ، و قد تم ترجمة تلك الكتابات على أنها تتحدث عن إلاه يسمى مردوخ يبارك للملك الفارسي قورش تحرير أرض بابل من حاكمها المستبد و تحرير كل الديانات ... وتعتبر هذه القطعة الأثرية لدى اليهود الشاهد الأثري على عودتهم إلى ارضهم التي هجرتهم منها الحقبة البابلية عند صعودها مع نبوخذنصر .
▪︎ هل هذه الإكتشافات الأثرية الثلاثة التي بدأ بها علماء الغرب تصوير حقبة العالم القديم هي أثار ذات معلومات بريئة ؟
ليست بالبراءة بالمطلق أن يبدأ الإكتشاف الأثري بقراءة أربع أسماء مهمة بالنسبة لمن اكتشفهم و غريبة عن من أكتشف في أرضهم ... نحن كمسلمين و عرب لا نعرف إطلاقا لا إسم قورش و لا إسم كليوباترا و لا إسم بطليموس و لا راعمسيس .. من يعرف هذه الأسماء هو كتب الرواية اليونانية و كتاب العهد القديم .
.. قراءة إسم كليوباترا و بطليموس من أثر مصر يعني أنه تم إثبات أن مصر قديما قد شهدت حقا حقبة ما اسمته الرواية اليونانية "مصر اليونانية" ، و بالتالي سيترسخ للجميع أن كتاب هيردوت الذي يتحدث عن ملك يوناني قديم احتل مصر هي رواية صحيحة و سيتم البرهنة للجميع أن هناك فترة حكم يونانية كانت في مصر .
.. قراءة إسمي بطليموس و كليوباترا اللذان تتحدث الرواية الغربية على أنهما ملكان يونانيان حكما مصر امتدادا لسيطرة اسكندر المقدوني هو دليل جديد ...دليل يضاف لليهود الذين هم ضمن الرواية اليونانية التي تتحدث عن كونهم شعب قد شهد فترة حكم اليونان لمصر ، و أنّ الرواية التي تقول أن الملك اليوناني بطليموس الثاني قد أمر بترجمة كتابهم العهد القديم من اللغة العبرية إلى اللغة اليونانية ثلاث قرون قبل الميلاد هي رواية صحيحة ... و بالتالي سيترسخ للقارئ حقيقة وجود شعب يهودي يمتلك كتاب ديني عبري ماقبل ثلاث قرون قبل الميلاد و داخل هذه الأرض .
..قراءة اسم الملك الذي أسموه راعمسيس و الذي ورد في كتاب العهد القديم على أنه إسم مدينة مصرية تنقل اليها اليهود قديما ، و بالتالي هذا الاسم المشابه سيجعل من تشابه التسمية سندا يثبت أنه هناك مدينة مصرية كانت تسمى قديما راعمسيس نسبة للملك المصري القديم المكتشف نطقه في الكتابات الاثرية .
.. قراءة اسم قورش و بابل من تلك القطعة الحجرية الصغيرة التي أظهروها في العراق و سمّوها اسطوانة قورش ، هو دليل جديد بالنسبة لليهود و صحّة كتابهم الديني فهو يثبت أنّ كتاب العهد القديم الذي يتحدث عن ملك فارسي يسمى قورش حررهم من السبي البابلي و أعادهم إلى أرض فلسطين الحالية هي معلومات صحيحة .. ودليلهم أنها موثقة بشواهد أثرية قديمة استخرجوا منها هذه التسميات .
سأطرح السؤال بشكل مباشر ... هل هذه الثلاث أثار التي بنى عليها علماء الغرب كل ابحاثهم العلمية كمفتاح لقراءة التاريخ القديم هي أثار حقيقية ؟ أم أن هناك لعبة وراء ظهور حجر رشيد و من ثمّ إيفاد مهندس معماري إلى مصر من أجل نقل مسلة كاملة إلى انجلترا ادعى أنه لم يكتشفها أحد قبله ...وبعدها مباشرة بووم تنفجر علينا من العراق اسطوانة بحجم قطعة ذرة مكتوب فيها إسم ملك اعاد اليهود إلى أرضهم التي ذكرها كتابهم و كتب المؤرخين اليونان ... غير منطقي ، هناك لعب هنا ..
▪︎كيف تم صناعة هذا الزيف الأثري ؟
قصة اكتشاف الحجر الذي أُرِّخ حوله استخراج العالم الفرنسي شامبليون كلمة "راعمسيس" هي قصة غريبة للغاية ، فقد ذُكر أنه تم اكتشافه من قبل جندي فرنسي في مدينة رشيد شمال مصر و من ثمة وقعت ضجة في الصحافة الأوروبية حول حق امتلاك ذلك الحجر من قبل بريطانيا أو فرنسا ... و هو مايدفعنا للتساؤل حول هذا الإلتفات الكبير لهذا الحجر ، و كذلك تساؤلنا حول وجود هذا الحجر الوحيد الذي نقشت فيه الكتابة المصرية جنبا إلى جنب مع الكتابة اليونانية في تلك المنطقة التي هي عبارة عن قصر عثماني خالي من أي أثار قديمة ؟
مالقصة !! ... أكيد أنه لو اكتشف هذا الحجر في منطقة تعج بالأثار المصرية التي من طابعها وجود نمط كتابة واحدة ستنطلي كذبتهم ، لأن الجميع سيطرح سؤال أين الكتابة اليونانية المكتوبة جنبا إلى جنب مع المصرية القديمة في باقي الآثار !! .. أما قصة التنازع حول من يظفر بملكية ذلك الحجر دون التفكير في أهمية قراءة مافيه أوّلاً ، هو أسلوب يجعل الرأي العام بشكل غير مباشر يسمع بخبره ، و ستتداول في الأوساط الإجتماعية سيرته مما يجعل معدلات فضول الناس الأوروبيين حول قراءة تاريخهم اليوناني داخله أكبر من المتوقع ، بالخصوص عندما يكون هذا الحجر يحوي كتابة يونانية .
الشيئ اللامنطقي الثاني و الذي لا ينبع من منبع الصدفة أبدا ، هو أنّه بعد فترة وجيزة من اكتشاف حجر رشيد ، يصل هذا الحجر إلى عالم انجليزي آخر يدعى توماس يونغ و إلى هنا كل شي على مايرام ... إلى مايرام إلى غاية ما يظهر الإنجليزي الآخر المدعو جون بانكس و هو سياسي برلماني بريطاني و يقال أنه مستكشف أثري ، ينتقل هذا بانكس إلى مصر و يلتقي مع نحّات و مهندس معماري إنجليزي يسمى تشارلز باري ، وجده في المنطقة التي عثر فيها على المسلة ..
هذه المسلة هي عبارة عن نصب وجد أمام أحد البنايات الأثرية المصرية القديمة التي يسميها المؤرخون معابد ، بحيث أن المسلة كانت تحوي كذلك على كتابة ثنائية اللغة ... يونانية جنبا إلى جنب مع الكتابات المصرية القديمة ؟ ..و بالضبط تحوي نفس الإسمين الملكيان الذان كتبا في حجر رشيد بطليموس و كليوباترا ..
هذا التشابه في كتابة الملكين كليوباترا و بطليموس في حجر رشيد و مسلة فيلة باليونانية ، مكّن توماس يونغ من معرفة أن هناك إسمين بالكتابة المصرية داخل إطارين وردا بشكل متشابه في حجر رشيد و في مسلة فيلة ، و بالتالي أخرج للناس أنهما اطاران ملكيان يخصان الملك بطلموس وكليوباترا ، لكن بفكرة أنهما لايملكان نطق صوتي .... ليكمل المهمة الفرنسي جاك شامبليون و يقرأ الكتابة التي داخل الإطارين بنطق حرفي و يروج للعالم انه تمكن من قراءة أول الرموز المصرية .. ليقرأ بعدها من خلال تلك الرموز التي استنتجها من اسمي بطليموس و كليوباترا إسم آخر و هو إسمم "راعمسيس" الذي روجو عنه بانه ملك مصري قديم حكم مصر .
القصة واضحة عندما يتواجد مهندس معماري في منطقة اكتشاف المسلة التي ستنقل الى انجلترا لتساهم بعملية ترابطية في تمكين إثبات قراءة ما كتب على حجر الرشيد و تخرج أسماء الملوك اليونانية .. و إلا فمالداعي أن تتواجد قطعة اثرية وحيدة تحوي كتابة يونانية مع مصرية قديمة في منطقة اثرية كبيرة مثل منطقة ابوسمبل .. كل الاثار التي في معبد ابو سمبل تحوي كتابات مصرية الا هذه المسلة التي يظهر من خلال وصفها ان قاعدتها المسقول عليها الكتابات اليونانية حديثة الإنشاء .... لعبة واضحة من أجل اخراج التسميات التي تتلائم مع مخططهم في طمس مقروء باقي الأثار المصرية و مطابقة تسميات شخصيات و جغرافيا روايتهم اليونانية و اليهودية على أثار المنطقة .
.
.
.
.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق